من المناسب تماماً أن تُسمّى النسخة العربيّة من مجلّة ماري كلير "ماري كلير العربيّة" فهي تمثّل شبه الجزيرة العربيّة، الأرض القديمة ذات التاريخ الغنيّ سواء من ناحية الآثار أو من ناحية الإنسان. وقد صعب علينا اختيار موضوع واحد للتركيز عليه أو جانب واحد للنظر فيه، فكلّما استكشفنا موضوعاً ما أو ناحية معيّنة، يظهر لنا موضوع آخر مثير للاهتمام، تماماً مثل غرفة العجائب أو قصة ألف ليلة وليلة، فتنقلنا كلّ قصة إلى أخرى مختلفة، ومن ثمّ من حيث لا ندري نجد أنفسنا نغوص في دنيا العجائب والخيال والاكتشاف والتّحديات. وفي عددنا المخصّص لفصل الصيف، قرّرنا أن نتوقّف قليلاً عن المقاومة ونطلق العنان لمخيّلتنا فنستمدّ منها الوحي ونمضي في المغامرة!
وقد كان من الرائع والمحرّر، أن ننظر إلى شبه الجزيرة العربية من البعيد لنحصل على الصورة الكاملة بشكل أفضل. فيجعلنا ذلك نقدّر جمال هذه الأرض وشعوبها، أي العرب الذين يشكّلون نسيجاً متنوّعاً من الألوان والأعراق والديانات والثقافات والعادات التي جعلتهم مميّزين بين ثقافات العالم. وتماماً كما لا يوجد تعريف واحد للإنسان العربيّ، لا توجد دولة عربية واحدة. وفي المملكة العربيّة السعوديّة، صقل مزيج الأراضي والطقس والمناظر الطبيعيّة والمناطق الجغرافية كل القصص التي سنستكشفها معاً في ما يلي.
كما سبق وذكرنا في عددنا لشهر مايو، فإنّ هذه الأرض هي مهد كافّة الحضارات البشريّة تقريباً، ولكن عندما نخوض مغامرة الاكتشاف في السعودية، ندرك أنّ الحضارات لم تترك بصماتها في الأراضي فقط، بل في البحار أيضاً! إذ تمتلئ شواطئ السعودية بالكنوز، سواء كانت طبيعيّة أو من صنع الإنسان، بدءاً بالشعاب المرجانية الرائعة إلى السفن الغارقة التي قد نجد فيها كلّ ما يخطر بالبال، كالأواني من فترة ما قبل التاريخ المليئة بالتوابل إلى الكابلات الصناعية الحديثة.
المغامرات تحاكي التاريخ والثقافة
وفصل الصيف هو دائماً الوقت الملائم للتخطيط للرحلات والعطلات. وفي الواقع، لطالما كانت ثقافات هذه الأراضي دائماً تسافر وترحّب بالزوار القادمون من الشرق الأقصى مروراً بالبحر المتوسّط وما وراءه، أو مدينة الحجّ القديمة مكّة، التي ستستقبل المملكة العربية السعودية الحجّاج من جميع أنحاء العالم في يوليو. وكسعوديّين، هذه فترة مميّزة جداً بالنسبة إلينا، فنفتخر بها ونتشرّف بها، تماماً مثل أسلافنا قبلنا، حتى قبل الإسلام.
سنتناول في هذا العدد موضوع الحجّ في مدن العالم الكبرى، وكيف أثّر ذلك علينا. سنستكشف درب مياه الحجّ الذي أنشأته السيّدة زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد. وكيف جعلتها رحلتها الشخصيّة للحجّ تبني هذا المشروع الضخم لتأمين الطعام والمسكن للحجّاج، والأهمّ من ذلك توفير المياه لكلّ الحجّاج القادمين من بغداد إلى مكّة، فقد قدّمت مكاناً للإقامة للمسافرين في كلّ ليلة من مسيرتهم. وتضمّن المشروع جميع وسائل الراحة اللازمة من الخيول والخدمات البريدية وإشارات الطرق التي توضح الوقت والمسافة المتبقيّة للوصول إلى الوجهة، وكلّ ذلك منذ أكثر من ألف سنة!
وما زال من الممكن اختبار هذه المغامرة اليوم من خلال الكثير من رحلات التنزّه في جميع أنحاء السعودية. وتمرّ المسارات والدروب عبر المباني القديمة والآثار وعين زبيدة وخط حديد الحجاز الذي ارتبط بقطار "الشرق السريع" في اسطنبول.
الهايكينج أو التّنزه في الصحاري والجبال
بالرغم من أنّ الغربيّين يمارسون التنزّه في المملكة العربية السعودية منذ عقود، إلّا أنّه مفهوم جديد نسبياً في المملكة العربية السعودية. ومع انفتاح السياحة، خصّصت الحكومة الكثير من رحلات التنزّه في جميع أنحاء المملكة، سواء كان في الصحاري أو في الجبال. ونقترح عليكم اختبار هذه التجربة اليوم لأنّ هذه الرياضة لا تزال مغامرة حقيقية. وأفضل طريقة هي العثورعلى السكّان المحليّين والانضمام إليهم في رحلتهم، حيث ستكتشفون المسارات والمواقع السريّة التي لا تزال مخفيّة. ستختبرون أيضاً التقاليد المحليّة وكرم الضيافة لتعيشوا مغامرة لا تُنسى.
هناك الكثير من وجهات التّنزه التي يمكنكم الاختيار بينها عندما تخطّطون لزيارتكم أو تقرّرون أي مكان ترغبون بزيارته. نقترح عليك تفقدّ موقع visitaudi.com من أجل اختيار الرحلة المثالية لكم. لكن أينما ذهبتم، أهمّ شيء هو الغوص في المخيّلة والتفكير في جميع الأشخاص الذين مرّوا على هذه الطريق قبلكم. فيصبح كلّ شخص بينكم المسافر القديم وعالم الآثار والجيولوجيّ. كما ننصحكم بالنظر أيضاً إلى النجوم والإحساس بالحرارة أو البرد فيتذكّر كلّ منّا بأنّه المغامر الجديد الذي يزور الأراضي القديمة ويمشي على أرض كانت مخفيّة عن بقية العالم. فلنَعش هذه اللحظة ونستمتع بالمغامرة ونستوحي منها.
روعة الطبيعة أثناء الغوص
الغوص في المملكة العربية السعودية تجربة رائعة فعلاً، فإنّ الشواطئ كما أعماق البحر الأحمر والخليج العربيّ مليئة كلّها بالكنوز سواء كانت طبيعية أو من صنع الإنسان. بدءاً من الشواطئ البكر إلى الشعاب المرجانية النظيفة غير الملوّثة وتنوّع الكائنات البحرية الملوّنة والجميلة والتي يتمّ الحافظ عليها. هيا نكتشف الآثار القديمة في تلك المدن الساحلية وفي السفن الغارقة في أعماق البحار، سواء كانت سفناً رومانيّة مليئة بالتوابل والتماثيل المصريّة أو سفناً صناعيّة حديثة. فإنّ روعة الطبيعة التي تغزو تلك السفن تشبه ما أصبحت عليه المملكة العربية السعودية. إذ أنّ مزيج الحياة والطبيعة والحياة البشرية والتطوّر الصناعي يشبه تعايش الطبيعة والتقدّم. وقد تكون هذه الفكرة رومانسية إلّا أنّها ملهمة رغم ذلك، لذا، ننصحكم بالغوص فعلياً في هذه المساحات الساحرة والإستمتاع بها.
الحج وعين زبيدة: قصّة هدف وعطاء وكرم
بالنسبة إلى معظم العالم، أبرز ما تشتهر به المملكة العربية السعودية هي مكّة والنفط. وقد يبدو أنّ هناك تناقض بين هذين الجانبين في البداية. لكن، كسعوديّ، يبدو الأمر طبيعياً جداً ومنطقياً. فمن وجهة النظر المنطقيّة، يتألّف الحجّ من مكان وزائر ومضيف. وما أجمل أن يكون المكان هو مكّة، والزائر هو العالم، والمضيف هم العرب! وبما أنّنا نهدف دائماً إلى الإلهام ورواية القصص، فتخيّلوا معنا كلّ الاحتمالات والقصص التي قد يجدها المرء هنا. إنها فكرة هائلة! وعلى مرّ آلاف السنين من الحجّ، تخبئ هذه المنطقة ألف قصّة وقصة. وفي ما يلي، سنسلّط الضوء على إحدى هذه القصص: عين زبيدة، قصّة هدف وعطاء وكرم، والأهمّ من ذلك هي قصّة إيمان وتواضع.
تمّ تأليف كتب كثيرة حول موضوع الحجّ وزبيدة، لكنّ قصة عين زبيدة أو طريق زبيدة هي قصة ملهمة وطموحة ومستقبلية. زبيدة بنت جعفر هي زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي يُقال إنّه أقوى رجل في عصره، العصر الذهبي للخلافة العباسية. إنّهما شخصيّتان أسطوريّتان فعلاً، وتكثر القصص التي حُكيت عنهما عبر التاريخ. معظمها قصص أسطوريّة وممتعة، لكنّ قصّتنا حقيقيّة وما زال بإمكاننا رؤية آثارها اليوم في أرض المملكة العربية السعودية.
عندما حان الوقت للمرأة الأكثر ثراءً وعصرية وقوّة في عصرها لأداء فريضة الحجّ عام 186 هـ من العراق إلى مكّة المكرّمة،
وبالرغم من أنّها كانت تملك قافلة ملكيّة فيها كلّ ما تحتاج إليه، عانت زبيدة فعلاً خلال السفر. فتساءلت "إذا عانيتُ أنا، كيف سيكون حال الآخرين؟" وقد ألهمتها رحلتها بالتالي لإنشاء مشروع ضخم من شأنه أن يعزّز مكانتها في التاريخ. فجمعت كلّ الخبراء والمهندسين في الإمبراطورية وطلبت منهم بناء طريق استثنائيّ، حيث يتمّ توفير المياه فيه ويضمّ محطات للشرب والأكل والنوم وتغيير الخيول والجِمال والتسوّق وأخيراً وإيجاد كلّ ما يحتاجون إليه حتى يصلوا إلى مكّة. وعندما أعلموها بتكلفة المشروع، قالت إحدى مقولاتها الشهيرة "ابدء ولو كلّفت ضربة الفأس ديناراً"، وقد موّلت كلّ شيء من ثروتها الخاصّة. وعندما انتهى المشروع، أحضروا لها عيّنة من الماء مع الأوراق التي توثّق المصاريف، فشربت الماء بهدوء وشكرت الله، وأخذت الأوراق وغمستها داخل إناء الماء وهتفت بالجملة التي أصبحت أسطورة "الحساب يوم الحساب".
ولا بدّ لي أن أعترف بأنّ كتابة هذا المقال كانت مغامرة فعليّة، ومثل كلّ المغامرات، كانت مرضيّة وتغني الروح. وتماماً مثل شعار السياحة في السعودية "روح السعودية"، سوف تكتشفون روح المملكة العربية السعودية! وانتظرونا في تحقيقات أخرى في الأعداد المقبلة نسلّط فيها الضوء على مواضيع جديدة!
Comments